عشرون عامًا من التوجيه الأكاديمي: تجارب ودروس مستفادة

 

عشرون عامًا من التوجيه الأكاديمي: تجارب ودروس مستفادة


منذ أكثر من عشرين عامًا، كرست نفسي لمساعدة الطلاب في تحديد مساراتهم الأكاديمية وتوجيههم نحو التخصصات الدراسية التي تتناسب مع طموحاتهم ومهاراتهم. خلال هذه السنوات، شهدت العديد من قصص النجاح التي ألهمتني وأكدت لي أهمية دور الموجه الأكاديمي في حياة الطلاب.

في هذا المقال، سأشارككم بعض التجارب التي أثرت في حياتي المهنية وأثبتت قيمة الإرشاد الأكاديمي.

 

  قصة النجاح الأولى: من الحيرة إلى التميز

أتذكر الطالب محمد، الذي جاءني وهو في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية، وكان يشعر بحيرة شديدة حول التخصص الذي يناسبه. بعد جلسات من النقاش والتقييم الشخصي، اكتشفنا معاً شغفه الكبير بالتكنولوجيا والبرمجة. رشحت له تخصص علوم الكمبيوتر، وبالفعل، بدأ محمد دراسته في هذا المجال وحقق نتائج مبهرة. بعد تخرجه، حصل على وظيفة في إحدى الشركات التقنية الكبرى، وما زال يواصل مسيرته المهنية بنجاح.

  قصة النجاح الثانية: التحويل الناجح بعد ثلاث سنوات

كان الطالب حسن قد بدأ دراسته في تخصص الهندسة المدنية بناءً على رغبة والديه، ولكن بعد

ثلاث سنوات من الدراسة، شعر بأنه ليس في المكان الصحيح. جاءني بحثًا عن الحل، ومن خلال

تحليل اهتماماته ومهاراته، اكتشفنا سويا شغفه الكبير بإدارة الأعمال.

كان رأيي الشخصي إكمال دراسة الهندسة ثم إكمال الدراسات العليا أو أخذ دروات تدريبية وشهادات

مهنية في مجال إدارة الأعمال لكن حسن كان له رأي آخر إذ سحب ملفه من الهندسة وقدم

من جديد في كلية إدارة الأعمال.

حسن يحضر للدكتوراة الآن في مجال إدارة الأعمال.

 قصة النجاح الثالثة: من الطب إلى السياسة

أنهى صالح السنة الأولى في كلية الطب بتقدير امتياز لكن شيئاً بداخله يقوده إلى تساؤلات عديدة لم يجد لها جواباً حتى قابلني، وتأكد أنه لا يصلح لهذا التخصص وأن البديل هو تخصص علوم سياسية، لكن تخوف ما أظهره قد يمنعه من الانتقال تمثل في ردة فعل والديه اللذين بنيا أحلاماً كبيرة لابنهما.

مرت سنوات على لقائي به وصادف أن زرت كلية الاقتصاد والإدارة فوجدت إعلاناً لمرشح الكلية في برنامج: نجم الجامعة وكان الطالب: صالح.قابلت وكلاء الكلية وسألتهم عن مرشحهم فقالوا: هذا الذي (خربناه) على كلية الطب.

تخرج صالح بمعدل تراكمي 4.8 من أصل 5 في درجة البكالوريوس، وعين معيداً في الكلية وأكمل درجة الماجستير ودرجة الدكتوراة في التخصص.

قصة النجاح الرابعة: اكتشاف الميول والمواهب

جاءتني الطالبة ريم وهي في حيرة تامة بشأن ميولها ومواهبها. لم تكن تدري تمامًا ما ترغب في دراسته أو العمل فيه مستقبلاً. بعد سلسلة من المقاييس النفسية والمهنية، اكتشفت ميلها القوي نحو تخصص (التصميم الداخلي).

قررت ريم التوجه نحو هذا التخصص، وبعد سنوات من الدراسة، اشتهرت تصاميمها وأصبحت تقدم خدماتها لكبار الشركات والجهات.

قصة النجاح الخامسة: التفاجؤ بالتخصص المناسب

الطالب خالد كان يعتقد أنه لا يملك أي مهارات خاصة ولا يعرف أين يمكنه التفوق. بعد عدة جلسات من الاستشارة، واستخدام أدوات تقييم مختلفة، تبين أن خالد يمتلك قدرة كبيرة على التحليل والتفكير النقدي. اقترحت عليه دراسة الفلسفة، رغم دهشته في البداية، إلا أنه قرر المحاولة.

بعد تخرجه بتفوق، يعمل خالد الآن كأستاذ في الجامعة ويُعتبر من أبرز المفكرين الشباب في مجاله.

 التحديات والدروس المستفادة

من خلال هذه القصص وغيرها، تعلمت العديد من الدروس المهمة:


1. المقاييس النفسية هي أداة من أدوات الموجه المهني، ولا يكمن السر فيها، إنما يكمن في خبرة الموجه وفهمه العميق للأداة.

المقياس يعد بمثابة صورة الأشعة التي يطلبها الطبيب لاستكشاف حالة المستفيد وتبين واقع الطالب.

2. لذا من الضروري أن يتأكد الموجه أولاً من مدى انطباق نتائج المقياس على الطالب وهل تمثله فعلاً.

وهذا يتطلب الانتباه لبعض العوامل:

- نضج الطلاب متفاوت، والخبرات التي مروا بها كذلك.

- عامل حكم الطلاب على أنفسهم، فالبعض قاسٍ في حكمه على نفسه، والبعض الآخر متفائل

كريم في منح أنفسهم أحكام أعلى من واقعهم.

- أحياناً يجد الموجه نتائج متدنية في إجابات الطالب على المقياس، فهذا مرده إما ضعف خبرة الطالب

وتجربته، وإما يكون مثالياً جالداً لذاته وهو يظن أنه بذلك يكون صريحاً مع ذاته غير مجامل لها.

يضطر الموجه أن يستخدم مقاييس أخرى للتأكد، وقد يكون نفس المقياس لكن بشكل آخر ويقارن

بين النتائج في الحالين.

- قد يحتاج الموجه أن يرجع إلى ماضي الطالب ويراجع معه ممارساته السابقة حتى يتأكد من مدى

انطباق النتائج عليه، وربما طرح تساؤلات مثل:

- هل يمكن أن تعطيني أمثلة على هذا الأمر؟؟.

- مَن مِن زملاك يقول ذلك عنك؟.

- اذكر تجربة لك مارست فيها هذا الشي.

- ما الذي يجعلنا نتأكد أن لديك هذه الميول؟.

- هل نقدر نجزم أن هذا الجانب يمثلك حقاً؟.

3. دور الموجه يتمثل في مساعدة الطالب على فهم ذاته وليس في اتخاذ القرار عنه.

إذا استطاع الموجه تحقيق النجاح في هذه المهمة فهذه علامة فارقة في تمييز خبرة الموجهين.

جوهر الاستشارة أن يتأكد الموجه من استيعاب الطالب وضعه وتفهمه جوانب مناطق شغفه المختلفة حتى لو اضطر أن يأخذ قراراً مهنياً في قادم أيامه كان له مرجع يمكنه الاستناد إليه.

لا بد أن يضع الموجه في اعتباره أن الذي سيدرس ويتكبد عناء طلب العلم هو الطالب فلا بد أن يكون مقتنعاً تمام الاقتناع بما هو مقدم عليه متصوراً لأبعاده واضحاً معالمه.

هذا يستلزم فهم جانب آخر هو: جانب التخصص أو المهنة.

 4. عملية الإرشاد تتضمن 3 عمليات:

- عملية فهم الطالب نفسه وميوله ومواهبه.

- عملية فهم التخصصات الدراسية وتبصر أغراضها وموادها.

- عملية إجراء التطابق بين الطرفين.

من الضروري أن يسأل الموجه الطالب عن التخصصات المبدئية التي فكر فيها، ويبين لماذا هي مناسبة له أم لا من خلال تحليل ميول الطالب ومدى مطابقتها للتخصص، ويساعدهم على فهم مزايا وعيوب كل خيار، مما يمكنهم من اتخاذ قرارات مستنيرة.

 5. توجد أنواع من التطابق:

- تطابق تام بين الطالب والتخصص – هذه أفضل حالة لكن قد توجد موانع لانخراط الطالب في التخصص مثل: عدم حماس الطالب له، توفر معلومات عن عدم وجود فرص عمل مستقبلية محتملة للتخصص بعد التخرج.

- تطابق جزئي بين الطالب والتخصص – هذه حالة مقبولة يمكن يوجه لها الطالب.

- عدم تطابق كلي بين الطالب والتخصص – هذه حالة غير مرغوبة فقد يواجه الطالب الكثير من الصعوبات والتحديات لو انخرط في التخصص.

6. ينبغي التنويه أن اختيار التخصص ليس نفسه اختيار المهنة.

فتخصص اللغة الإنجليزية يمكن أن يؤدي لمهنة التدريس أو الترجمة أو النشر أو الإعلان أو العلاقات العامة ... 

وتعد تخصصات الرياضيات متعددة الاستخدامات للغاية لأنها تبني لدى الطالب مهارات التفكير والتحليل إضافة إلى جعله بارعاً في التعامل مع الأرقام. يمكن أن يؤدي التخصص في الرياضيات إلى مجموعة متنوعة من الوظائف، من الإحصاء إلى المحاماة إلى عالم الكمبيوتر.

صادفتني حالة طالب كان يرغب بشدة في العمل في مجال الطب الجنائي وكان هناك توافق كبير بينه وبين المهنة لكن لما نظرنا لمتطلبات حصوله على وظيفة في الطب الجنائي وجدنا أنه يمكن أن يدرس تخصص الكيمياء أو المختبرات على سبيل المثال ولم يكن هناك توافق بينه وبين هذين التخصصين ولو جزئيا، ورغم ذلك قرر دراسة أحدهما ليصل إلى المهنة محل الشغف، وكان التوجيه لخطوات وكيفية تجاوز التخصص الدراسي غير المرغوب.

الاستنتاج:

اختيار التخصص لا يماثل اختيار مهنة ، إلا أن التفكير في المستقبل المهني يمكن أن يساعد في التوجيه نحو مجالات أكاديمية معينة.

7. كذلك هناك نقطة مهمة ينبغي وضعها في الاعتبار:

الدراسة الجامعية تهدف لصناعة عقلية الطالب وبناء منهجية للتعامل مع ما سيواجهه في المستقبل، لذا تتكون أول سنتين من الدراسة الجامعية في الغالب من مواد عامة مثل الرياضيات والعلوم واللغة الإنجليزية، تعتبر متطلبات أساسية في كثير من التخصصات ولا تبدأ مواد التخصص فعلياً إلا في السنة الثالثة غالباً. (طبعاً بعض التخصصات لا تتطلب مواد عامة وتحتاج إلى تخطيط مبكر. ومن أمثلتها: التمريض ، والهندسة ، والعلاج الطبيعي).

لذا يجدر بالموجه أن يلفت نظر الطالب لهذا الجانب وأنه ربما مرت عليه مواد ليست لها علاقة بميوله في التخصص، وأن الدراسة الجامعية تمنحه مجموعة مهارات أساسية يمكنه البناء عليها أثناء اكتساب خبرة في العمل.

8. التخصص الذي يختاره الطالب لن يحدد حياته الكلية، فيساعده المرشد لرفع الضغط عن نفسه، و "لا يجعل الموضوع يمثل عقدة له"، فالتخصص والمرحلة الجامعية ليست حياته بأكملها، بل هي توجه السنوات الأربع القادمة من حياته وستمر بسرعة!.

9. جانب آخر ينبغي للموجه مراعاته .. هو جانب شخصية الطالب، فلا تكفي الميول وحدها لترشيح التخصص الدراسي المناسب.

فإذا كان الطالب لا يستطيع أن يقف على مرأى من الدم، فلا يذهب إلى التمريض.

وإذا كان لا يحب التعامل مع الحيوانات فما ينبغي أن يكون طبيبًا بيطريًا.

وإذا كان اجتماعيًا بالفطرة ويحب التواجد حول الناس فسوف يرشح لتخصصات إدارة الأعمال أو تخصص العلاقات العامة، ولن ينجح في العمل بمفرده لإجراء الأبحاث في المختبر أو كمبرمج كمبيوتر.

وإذا كان يفضل العمل بمفرده ، فيمكنه الغوص بعمق في مجالات متخصصة ومستقلة في علوم المكتبات أو الأدب الإنجليزي أو الرياضيات.

وإذا كان يحب الدور الهادئ للمبتكر يمكنه استكشاف الشهادات الجامعية في العلوم والهندسة.

وإذا كان يريد أن يحتل مركز الصدارة في مجتمعه ، يمكنه أن يتجه للتخصص في التعليم أو الأعمال التجارية أو الفنون.

الأمثلة السابقة تجعل من المهم التفكير في نمط شخصية الطالب وكيف سيؤثر ذلك على اختياره للتخصص.

10. من الأمور المهمة التي غفلت عنها أحياناً ودفعت ثمنها من وقتي: تدوين خلاصة التوجيه بعد جلستي مع الطالب.

وهذا الأمر متعلق بطلب الآباء خلاصة لقائي بالطالب بعد الجلسة التي أجريتها معه.

واجهت حالات حضور بعض الآباء مع أبنائهم، وكان لها إيجابيات من ناحية تأكيد مدى انطباق نتائج مقياس الطالب عليه، وتوجد بعض التحديات من ناحية عدم ارتياح الطالب في الحوار معي من جانب عدم شعوره بالاستقلالية والخصوصية التي يتصف بها أغلب جيل Z، ويحتاج الأمر إلى شي من المهارة في إدارة الحوار مع الطرفين.

التحدي الأكبر كان في حالة عدم حضور الأب - طلبه تقريراً عن ابنه بعد انتهاء المقابلة معه خاصة حين يكون الطلب بعد عدة أيام من انتهائها .. إذ تكون المعلومات قد تداخلت مع أشخاص آخرين قابلتهم فأضطر إلى اجترار الذاكرة وقراءة تقرير المقياس مرة أخرى ثم شرح النتيجة من جديد للأب.

الحل المقترح لعلاج الحالة وقد استخدمته مرات عديدة:

أن يسجل الابن أحداث المقابلة تسجيلاً صوتياً يمكنه من الرجوع إليه والاستفادة منه لاحقاً، وكذلك يمكنني من إرجاع الأب إليه، ويتبقى إن ظهرت لديه بعض الأسئلة أقضي معه فيها وقتاً أقل.

كذلك الحال مع بعض الجهات التي ترشح مستفيدين لديها لأخذ استشارات معي.

 الخاتمة

إن مساعدة الطلاب في تحديد تخصصاتهم الدراسية هي مهمة تتطلب الكثير من الصبر والفهم والتوجيه السليم. أشعر بالفخر والامتنان لكل طالب ساعدته في العثور على طريقه الأكاديمي، وأؤمنبأن الإرشاد المهني يمكن أن يغير حياة الكثيرين نحو الأفضل، وأن دور الموجه في حياة الطلاب مهم وحاسم في تحسين مستقبلهم الأكاديمي والمهني.


تعليقات